حرمة صلاة الجمعة
الأحــــكام
صنف الإمام السيوطي في فضلها كتابه الماتع : نور اللمعة في خصائص الجمعةقال : فقد ذكر الأستاذ شمس الدين ابن القيم في كتاب الهدي ليوم الجمعة خصوصيات بضعا وعشرين خصوصية. وفاته أضعاف ما ذكر، وقد رأيت استيعابها في هذه الكراسة منبها على أدلتها على سبيل الإيجاز، وتتبعتها فتحصلت منها على مائة خصوصية .
فأثبت أن للجمعة حرمة عظيمة وفضلا كبيرا وما الأدلة الكثيرة والمتنوعة إلا معان متعددة معبرة عن ذلك ليحرص المسلم على كسب نصيب وافر من فضلها فمن تلك المعاني :
ـ أوجب الله السعي إليها بلفظ فاسعوا ، والسعي لا يكون إلا إلى عظيم يخاف فواته ومن فاته ذلك يوصف بالخاسر
ـ حرم الله في وقت الصلاة إبرام جميع العقود فأي عقد وقع فيه فهو عقد باطل شرعا سواء كان زواجا أو بيعا أو شركة . وحكم الشرع على الشيئ بالبطلان معناه نزع الخير والبركة منه .
ـ ملأ الله يوم الجمعة بالخير ، فشوق إليه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم : أن الله تعالى جعل فيه ساعة لا يوافقها عبد بالدعاء إلا استجيب له. وقد أخفى الله فيه تلك الساعة ليستغل اليوم كله لانه يوم مبارك كله
ـ جعل الله هذا اليوم مما ينظر إليه كيوم عرفة ورمضان والإثنين والخميس .. وقد جرت عادة النبي صلى الله عليه وسلم بتعظيم ذلك
ـ هدد النبي صلى الله عليه وسلم من تخلف عنها من غير عذر بالطبع على القلوب كما ذكر في حديث الباب ، وهو وعيد شديد ، وقد فسر الطبع بأنه طبع النفاق، كما في قوله تعالى : [ ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون ]
ــ وقيل: طبع الضلال، كالذي ورد في حديث حذيفة [ تعرض الفتن على القلوب كالحصير عود عود فايما قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأيما قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى يصير على قلبين : أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض ، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه ] نسأل الله العافية والسلامة
ــ وقال عبد الله بن مسعود والحسن البصري إن الصلاة التي أراد النبي عليه السلام أن يحرق من تخلف عنها هي الجمعة
ــ وقال ابن عبد البر في الاستذكار : وأجمعوا أنه بتركها ثلاث مرات من غير عذر فاسق ساقط الشهادة
ــ وعن ابن عباس قال : من ترك ثلاث جمعات متواليات من غير عذر فقد نبذ الإسلام وراء ظهره
فهذه جملة من الأقوال في صلاة الجمعة تظهر حرمتها عند الله تعالى فمن عادة الشرع أنه يشدد النهي عن الشيء إذا عظمت خطورته ، ويبالغ في الحث عليه إذا عظمت منافعه ... والأخبار الدينية هي أسرار كونية
الجمعة فرض عين
قال ابن عبد البر : وفي قوله تعالى [ يأيها الذين ءامنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ] كفاية في وجوب الجمعة على من سمع النداء
من تجب عليه ومن لا
قال العلماء صلاة الجمعة هي من فروض الأعيان فتجب على كل : ـ مسلم ــ حر ــ بالغ ــ عاقل ــ ذكر ــ مقيم ــ
ولا تجب على ــ الصبي ــ والمجنون ــ والمرأة ــ والمسافر
فلا جمعة علي الصبي والمجنون لأنهما ليسا من أهل الفرض ولا جمعة على النساء باتفاق لحديث النبي صلّى الله عليه وسلّم قال [ الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا على أربعة عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض ] أخرجه أبو داود
ولا تجب على المسافر لحديث أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : [الجمعة على من آواه الليل إلى أهله ] وفي حكم إنشاء السفر يوم الجمعة خلاف بين الفقهاء .
اشتراط العدد لانعقاد الجمعة
اشترط الفقهاء عددا معينا لانعقاد الجمعة . واختلفوا في تحديده وتعيينه
ــ فعند المالكية: يشترط حضور اثني عشر رجلاً لما روي عن جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً يوم الجمعة، فجاءت عِير من الشام، فانفتل الناس إليها، حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً، فأنزلت هذه الآية التي في الجمعة: [ وإذا رأوا تجارة أو لهواً، انفضوا إليها، وتركوك قائماً ]
قلت : والاستدلال بهذه القصة ضعيف لأنها واقعة عين لا عموم لها . وهذه قاعدة فقهية يضعف بها الفقهاء الاحكام المبنية عليها كما يذكر الشوكاني ذلك كثيرا في نيل الأوطار .
لأنها قاعدة لا تثبت للقياس عليها فلو قدر أن الباقين معه ألف رجل ؟ لساغ لأصحاب هذا القول أن يشترطوه عددا . وعليه : فالقصة لا تنضبط بميزان عقلي ولا شرعي بل هي من صميم ما يناقض المقاصد .
ثم إن أصحاب هذا القول اشترط لهذا الشرط شرطين أيضاً
الأول : أن يكون العدد المذكور من أهل البلد، فلا تصح من المقيمين به لنحو تجارة، إذا لم يحضرها العدد المذكور من المستوطنين بالبلد ...
الثاني : أن يكونوا باقين مع الإمام من أول الخطبة حتى السلام من صلاتها، فلو فسدت صلاة واحد منهم، ولو بعد سلام الإمام، بطلت الجمعة للجميع
ــ وعند الشافعية والحنابلة: يشترط لها أربعون رجلا فأكثر بالإمام من أهل القرية المكلفين الأحرار الذكور المستوطنين، بحيث لا يظعن منه أحدهم شتاء ولاصيفاً إلا لحاجة . ولو كانوا مرضى أو خرساً أو صماً، لا مسافرين
ولا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين، لحديث كعب المتضمن أن عدد المصلين في أول صلاة جمعة بالمدينة مع أسعد بن زرارة كانوا أربعين رجلاً . وروى البيهقي عن ابن مسعود أنه صلّى الله عليه وسلم جمع بالمدينة وكانوا أربعين رجلاً ...
ولم يثبت أنه صلّى الله عليه وسلم صلى بأقل من أربعين . فلو انفض الأربعون أو بعضهم في الخطبة، لم تصح الجمعة .
وهذان القولان من العجائب والغرائب لا يستندان إلى دليل ولا مسوغ عقلي ؟ فلا يرقى مثلهما إلى مستوى الخطاب الديني المقاصدي . تبقى اقوالا يحترم قائلها ولا يلتفت إلى مدلولها .
ــ و عند أبي حنيفة ومحمد في الأصح: ثلاثة رجال سوى الإمام، ولو كانوا مسافرين أو مرضى؛ لأن أقل الجمع الصحيح إنما هو الثلاث، والجماعة شرط مستقل في الجمعة، لقوله تعالى: [ فاسعوا إلى ذكر الله ]
والجمعة مشتقة من الجماعة، ولا بد لهم من مذكر وهو الخطيب.
وهذا هو الدين والفطرة والعقل والدليل والمقاصد ..
بقلم أستاذي الدكتور عبد الحفيظ العبدلاوي
تعليقات
إرسال تعليق