في وداع شهر رمضان
شهر رمضان هو أفضل شهور السنة على الإطلاق، ولذلك اختاره الله تعالى لانزال كل ما نعلم من رسالاته فيه، وختمها بانزال القران الكريم ولذلك قال تعالى: *شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ..* (البقرة: 185).ويروى عن رسول الله ﷺ قوله الشريف: "أنزلت صحف ابراهيم أول ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، وأنزل الانجيل لثلاث عشرة خلت، وأنزل القران لأربع وعشرين من رمضان"، وبه العشر الأواخر التي أقسم بها ربنا تبارك وتعالى فقال: *وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ* وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ* وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ* هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ* (الفجر: 1-5).
والقسم هنا من الله تعالى - وهو الغنى عن القسم لعباده- ولكن إذا جاءت الآية القرآنية الكريمة بصيغة القسم كان في ذلك تنبيه لنا بأهمية الأمر المقسم به، وبأهمية جواب القسم. وفي هذه الآيات الكريمة يقسم ربنا تبارك وتعالى بالفجر، وهو أول النهار عند بداية وصول نور الصبح إلى سطح الأرض ليحل محل ظلمة الليل، وهو حدث هام بالنسبة لأهل الأرض جميعا، يدركون به مرور الزمن، ويؤرخون به للأحداث، وذلك بتبادل ظاهرتي الليل والنهار على سطح كوكبنا الأرض. ثم يقسم ربنا تبارك وتعالى بالليالي العشر، وقال فيها المفسرون أنها هي الليالي العشر المباركات من أول شهر ذي الحجة، لأنها أيام الاشتغال بأعمال الحج، ولكن يبدو أن المقصود بالقسم هنا هي الليالي، وليست الأيام (بمعنى النهار) لأن أغلب أعمال الحج تتم بالنهار. وعلى ذلك فقد يكون المقصود "بالليالي العشر" في سورة "الفجر" هي الليالي العشر الأخيرة من شهر رمضان، وفيها "ليلة القدر" التي هي خير من ألف شهر كما وصفها ربنا تبارك وتعالى، ويقابل ذلك الأيام العشر الأولى من شهر ذي الحجة (بمعنى نهار اليوم) وفيها يوم عرفة، وفي ذلك يروي جابر رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: "ما من أيام عند الله أفضل من عشر ذي الحجة" فقال رجل: هن أفضل من عدتهم جهاداً في سبيل الله؟ قال: "هن أفضل من عدتهن جهاداً في سبيل الله، وما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة"، والمقصود بيوم عرفة هو نهاره الذي ينتهي مع غروب شمسه تحت الأفق.
ثم أقسم ربنا تبارك وتعالى في سورة "الفجر" بالشفع والوتر أي بكل من يومي النحر ويوم عرفة، لكون يوم النحر هو اليوم العاشر (أي يوم زوجي)، ويوم عرفة هو التاسع من ذي الحجة (أي يوم فردي)، ثم يأتي القسم "بالليل إذا يسر"، وفيه إشارة إلى تبادل الليل والنهار، وإلى محو نور النهار لظلمة الليل، وبذلك يدرك الإنسان مرور الزمن، وتبادل الأحداث، بالإضافة إلى كون هذا التبادل لكل من الليل والنهار هو من ضرورات استقامة الحياة على الأرض التي لا تتحمل البقاء دوما في النور أو في الظلام، مما يدل على كمال القدرة الإلهية المبدعة لكل شيء.
وبعد ذلك يأتي هذا السؤال الاستفهامي التقريعي الذي يقول فيه الحق تبارك وتعالى: *هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ*، أي هل في صيغ القسم السابقة ما يقنع أصحاب العقول السوية؟ لأن (الحجر) هو العقل واللب. ومعنى السؤال أن الله تعالى يقول: إن هذا لقسم عظيم عند ذوي العقول والألباب الذين يدركون بما وهبهم الله تعالى من حسن الفهم أن الأمور التي جاء بها القسم تدل على أن لهذا الكون خالق حكيم عليم أتقن كل شيء خلقه، مما يشهد لجلاله بالألوهية والربوبية والخالقية والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه، وجواب القسم محذوف، وتقديره: ورب هذه الأشياء ليعذبن الله تعالى الكفار الذين طغوا في الأرض وأفسدوا فيها إفساداً كبيراً، وأغرقوها في بحار من دماء وأشلاء الصالحين الأبرياء، وأكثروا فيها من المظالم والتعذيب والتنكيل دون أدنى قدر من الرحمة أو الشعور بأبسط قيم الانسانية (اللهم آمين يا رب العالمين).
تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام، وجعلنا من عتقاء النار في هذا الشهر الكريم.
وداعا شهر رمضان
وهكذا مر شهر رمضان أفضل شهور السنة، بلياليه العشر الأواخر، أفضل عشر ليال في السنة، وفيها ليلة القدر أشرف ليلة في السنة على الإطلاق، والتي أنزل فيها القرآن الكريم جملة واحدة من اللوح المحفوظ في السماء السابعة إلى البيت المعمور في السماء الدنيا، ثم أنزل بعد ذلك منجما على رسول الله ﷺ، بمعنى إنزاله آية آية، أو عددا من الآيات بعد عدد، أو سورة سورة، وفي ذلك يقول ربنا تبارك وتعالى: *إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْر* سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ* (القدر:1-5).
وقال تعالى: * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا ۚ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* (الدخان: 3-6).
ويمتدح رسول الله ﷺ هذه الليلة المباركة بقوله لأصحابه: " إنَّ هذا الشَّهرَ قَد حضرَكُم وفيهِ ليلةٌ خيرٌ مِن ألفِ شَهْرٍ من حُرِمَها فقد حُرِمَ الخيرَ كُلَّهُ ولا يُحرَمُ خيرَها إلَّا محرومٌ" (ابن ماجة).
ويأتي هلال شوال مؤذناً بمقدم يوم عيد الفطر الذي يعرف باسم "يوم الجائزة" لكل من صام نهار رمضان وقام ليله، وأحيا ثلثه الأخير، وتخلق بأخلاق الصيام، واجتهد في العبادة إيماناً واحتساباً لوجه الله الكريم، ومنها مدارسة القرآن وتدبر معاني آياته، وذلك إنطلاقا من قول ربنا تبارك وتعالى: *إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا* (الاسراء: 9).
وعيد الفطر هو حقيقة "يوم الجائزة" الكبرى لأنه هو يوم مغفرة الذنوب، والعتق من النار، وما أعظمها من جائزة، لأن المسلم إذا تحقق له ذلك فقد فاز أعظم الفوز لقول الحق تبارك وتعالى: *فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ* (آل عمران:185).
ومن سنن يوم الفطر تناول تمرات وتراً قبل الخروج إلى صلاة سنة العيد، وهي من السنن المؤكدة التي يستحب لها الغسل، والتطيب، ولبس أجمل الثياب، ومخالفة الطريق. ومن تلك السنن إخراج زكاة الفطر لقول رسول الله ﷺ: "زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات"، (أبو داود وابن ماجه).
وعيد الفطر فرصة لتجديد صلات الأرحام، ولأداء حقوق كل من الأصدقاء والمعارف والجيران، ولإصلاح ذات البين، وهو كذلك فرصة لإدخال السرور على جميع أفراد الأسرة بمختلف النشاطات المنضبطة بالضوابط الشرعية، ولكن لظروف انتشار وباء كورونا، نصح علماء الأمة بأداء صلاة عيد الفطر في المنازل فرادى بلا جماعات ولا خطبة.
ومن السنن النبوية الشريفة إتباع عيد الفطر مباشرة أو على التراخي بصوم ستة أيام من
شهر شوال، وذلك لقول المصطفى ﷺ: "من صام رمضان، ثم أتبعه ستاً من شوال، كان كصيام الدهر"، (صحيح مسلم).
أعاننا الله تعالى على ذلك، وأعاد علينا وعلى أمة الاسلام في كل مكان أمثال شهر رمضان، والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها قد عافاهم الله من وباء كورونا ومن كل مكروه، وأخرجهم من الفتن التي فرضت عليهم كقطع الليل المظلم سالمين معافين ان شاء الله تعالى، ليعاودوا بناء مجد هذا الدين من جديد ونشر نوره في الافاق وهم موفقون الى خيري الدنيا والاخرة ... اللهم امين.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين، وصل الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تعليقات
إرسال تعليق